الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}روي أن الشيطان تمثل لهم يومئذ في صورة سُراقة بن مالك بن جُعْشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم، لأنهم قتلوا رجلًا منهم.فلما تمثّل لهم قال ما أخبر الله به عنه.وقال الضحّاك: جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده.وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم.وعن ابن عباس قال: أمدّ الله نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة؛ فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مُجَنِّبة، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مُجَنِّبة.وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مُدْلِج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جُعْشم.فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم؛ فلما اصطف القوم قال أبو جهل: اللَّهُمّ أوْلانا بالحق فانصره.ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: «يا رَبّ إنك إن تُهلك هذه العصابةُ فلن تُعبد في الأرض أبدًا».فقال جبريل: «خذ قبضة من التراب» فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم؛ فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه.فولّوْا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرًا وشِيعتَه؛ فقال له الرجل: يا سُراقة، ألم تزعم أنك لنا جارٌ؛ قال: أني بريءٌ منكم إني أرى ما لا ترون ذكره البيهقي وغيره.وفي مُوَطّأ مالك عن إبراهيم بن أبي عَبْلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رأى الشيطان نفسه يومًا هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر».قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: «أمَا إنه رأى جبريل يزع الملائكة» ومعنى نكص: رجع بلغة سليم؛ عن مؤرِّج وغيره.وقال الشاعر:وقال آخر: وليس هاهنا قهقرى بل هو فرار؛ كما قال: «إذا سمع الأذانَ أدبر وله ضراط» {إني أَخَافُ الله} قيل: خاف إبليس أن يكون يوم بدر اليوم الذي أُنْظِرَ إليه.وقيل: كذب إبليس في قوله: {إني أَخَافُ الله} ولكن علم أنه لا قوّة له.ويجمع جار على أجوار وجيران، وفي القليل جِيرة. اهـ. .قال الخازن: قوله سبحانه تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم} يعني اذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم إذا زين الشيطان يريد إبليس للمشركين أعمالهم الخبيثة {وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} قال بعضهم: كان تزيينه وسوسة ألقاها في قلوبهم من غير أن يتحول في صورة غير صورته.وقال جمهور المفسرين: تصور إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان تزيينه أن قريشًا لما أجمعت على المسير إلى بدر ذكرت الذي بينها وبين بكر بن الحرث من الحروب فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشرف بين كنانة، فقال: أنا جار لكم من أن يأتيكم من كنانة شيء تكرهونه فخرجوا سراحًا.وقال ابن عباس: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من رجال بني مدلج سراقة بن مالك بن جعشم فقال للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين.وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، لعنه الله فلما رآه وكانت يده في دي رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرًا وشيعته، فقال الرجال يا سراقة أتزعم أنك جار لنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وذلك حين رأى الملائكة.وقوله: {إني جار لكم}، يعني مجير لكم من كنانة {فلما تراءت الفئتان} أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء فعلم عدو الله إبليس أنه لا طاقة له بهم {نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم} يعني رجع القهقرى وولى مدبرًا هاربًا على قفاه، وقال الكلبي: لما التقى الجمعان كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو آخذ بيد الحرث بن هشام فنكص عدو الله إبليس على عقبيه فقال له الحرث: أفرارًا من غير قتال؟ وجعل يمسكه فدفع في صدره وانطلق فانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة.فبلغ ذلك سراقة فقال: بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس فوالله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم.فقالوا: أما أتيتنا في يوم كذا وكذا فحلف لهم، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان شيطانًا قال الحسن في قوله: {إني أرى ما لا ترون} قال: رأى إبليس جبريل عليه السلام معتجرًا ببرد يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب.وقال قتادة: قال إبليس إني أرى ما لا ترون وصدق وقال: إني أخاف الله وكذب ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولا منفعة فأوردهم وأسلمهم وتلك عادة عدو الله إبليس لمن أطاعه إذ التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم وقيل إنه خاف أن يهلك فيمن هلك وقيل خاف أن يأخذه جبريل فيعرف حاله فلا يطيعوه وقيل معناه {إني أخاف الله} أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمر ربه وقيل لما رأى الملائكة قد نزلت من السماء خاف أن تكون القيامة {والله شديد العقاب} قيل معناه إني أخاف الله لأنه شديد العقاب فعلى هذا يكون من تمام قول إبليس.وقيل: تم كلامه عند قوله: {إني أخاف الله}.وقوله تعالى: {والله شديد العقاب} ابتداء كلام.يقول الله سبحانه وتعالى: والله شديد العقاب لمن خالف الله وكفر به.عن طلحة بن عبيد الله بن كرز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة». أخرجه مالك في الموطأ.قوله: ولا أدحر هو بالدال والحاء المهملتين من الدحور، وهو الإبعاد والطرد مع الإهانة.وقوله: يزع الملائكة، أي يكفهم ويحبسهم لئلا يتقدم بعضهم على بعض.والوازع: هو الذي يتقدم ويتأخر في الصف ليصلحه.فإن قلت: كيف يقدر إبليس على أن يتصور بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطانًا؟قلت: إن الله أعطاه قوة وأقدره على ذلك كما أعطى الملائكة قوة أقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنة لم تتغير فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة. اهـ..قال أبو حيان: {وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم}.{أعمالهم} ما كانوا فيه من الشرك وعبادة الأصنام ومسيرهم إلى بدر وعزمهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا التزيين والقول والنكوص هل ذلك على سبيل المجاز أو الحقيقة قولان للمفسرين بدأ الزمخشري بالأوّل فقال: وسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون وأوهمهم أنّ اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما تحبرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم انتهى، ويكون ذلك من باب مجاز التمثيل، وقال المهدويّ يضعف هذا القول إنّ قوله: {وإنّي جار لكم} ليس مما يلقى بالوسوسة انتهى، ويمكن أن يكون صدور هذا القول على لسان بعض الغواة من الناس قال لهم ذلك بإغواء إبليس له ونسب ذلك إلى إبليس لأنه هو المتسبب في ذلك القول فيكون القول والنكوص صادرين من إنسان حقيقة والجمهور على أنّ إبليس تصور لهم فعن ابن عباس في صورة رجل من بني مدلج في جند من الشياطين معه راية، وقيل جاءهم في طريقهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وقد خافوا من بني بكر وكنانة لدخول كانت بينهم وكان من أشراف كنانة فقال: ما حكى الله عنه ومعنى {جار لكم} مجيركم من بني كنانة فلما رأى الملائكة تنزل نكص، وقيل كانت يده في يد الحارث بن هشام فلما نكص قال له الحرث: إلى أن أتخذ لنا في هذه الحال فقال: {إني أرى ما لا ترون} ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة بن مالك فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.وفي الموطأ وغيره ما رؤي الشيطان في يوم قل ولا أحقر ولا أصغر في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر قيل: وما رأى يا رسول الله قال: رأى الملائكة يريحها جبريل، وقال الحسن: رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام و{لكم} ليس متعلقًا بقوله: {لا غالب} لأنه كان يلزم تنوينه لأنه يكون اسم لا مطولًا والمطول يعرب ولا يبنى بل لكم في موضع رفع على الخبر أي كائن لكم وبما تعلق المجرور تعلّق الظرف و{اليوم} عبارة عن يوم بدر ويحتمل أن يكون قوله: {وإني جار لكم} معطوفًا على {لا غالب لكم اليوم} ويحتمل أن تكون الواو للحال أي لا أحد يغلبكم وأنا جار لكم أعينكم وأنصركم بنفسي وبقومي و{الفئتان} جمعًا المؤمنين والكافرين، وقيل فئة المؤمنين وفئة الملائكة {نكص على عقبيه} رجع في ضد إقباله وقال: {إني بريء منكم} مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم لم يكتفِ بالفعل حتى أكد ذلك بالقول: {ما لا ترون} رأي خرق العادة ونزول الملائكة {إني أخاف الله}، قال قتادة وابن الكلبي معذرة كاذبة لم يخف الله قط، وقال الزجاج وغيره: بل خاف مما رأى من الهول إنه يكون اليوم الذي أنظر إليه انتهى وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر} ويحتمل أنّ يكون {والله شديد العقاب} معطوفًا على معمول القول قال: ذلك بسطًا لعذره عندهم وهو متحقق أنّ عذاب الله شديد ويحتمل أن يكون من كلام الله استأنف تهديدًا لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش. اهـ..قال أبو السعود: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم}منصوبٌ بمضمر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريق التلوينِ، أي واذكُر وقتَ تزيينِ الشيطانِ أعمالَهم في معاداة المؤمنين وغيرِها بأن وسوس إليهم {وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} أي ألقَى في رُوعِهم وخيّل إليهم أنهم لا يُغلبون ولا يطاقون لكثرة عددِهم وعُددهم، وأوهمهم أن اتّباعَهم إياه فيما يظنون أنها قُربات مجيرٌ لهم حتى قالوا: اللهمَّ انصُرْ إحدى الفئتين وأفضلَ الدينَين، ولكم خبرُ (لا غالب) أو صفتُه وليس صلتَه، وإلا لانتصب كقولك: لا ضاربًا زيدًا عندنا.{فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان} أي تلاقى الفريقان {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} رجَع القهقرى أي بطل كيدُه وعاد ما خيَّل إليهم أنه مجيرُهم سببًا لهلاكهم {وَقَالَ إِنّي بَرِيء مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ الله} أي تبرأ منهم وخاف عليهم ويئِس من حالهم لما رأى إمدادَ الله تعالى للمسلمين بالملائكة، وقيل: لما اجتمعت قريشٌ على المسير ذَكَرت ما بينهم وبين كِنانةَ من الإحنةِ فكاد ذلك يَثْنيهم فتمثل لهم إبليسُ في صورة سُراقةَ بنِ مالك الكِناني وقال: لا غالبَ لكم اليوم من الناس وإني مجيرُكم من كِنانةَ فلما رأى الملائكةَ تنزِل نكَص وكان يدُه في يد الحارث بن هشام فقال له: إلى أين؟ أتخذُلنا في هذه الحالة فقال: إني أرى مالا ترون ودفع في صدر الحارثِ وانطلق فانهزموا فلما بلغوا مكةَ قالوا: هزَم الناسَ سراقةُ، فبلغه ذلك فقال: والله ما شعَرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتُكم فلما أسلموا علِموا أنه الشيطانُ وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قولهِ: {إني أخاف الله} أخافه أن يُصيبَني بمكروه من الملائكة أو يُهلكَني ويكونُ الوقتُ هو الوقتُ الموعود إذ رأى فيه ما لم يرَه قبله، والأول ما قاله الحسنُ واختاره ابن بحر {والله شَدِيدُ العقاب} يجوز أن يكون من كلامه أو مستأنفًا من جهة الله عز وجل. اهـ.
|